-
القائمة
جريدة الشروق 22 ديسمبر 2022
12 جانفي 2023
المعهد العالي للفنون الجميلة بتونس...تاريخه
مرحلة تونس المستعمَرة
يحملنا الاطلاع على تاريخ المعهد العالي للفنون الجميلة بتونس (المعهد الام) إلى بدايات انطلاقة الفنون الجميلة في تونس التي تعود إلى آخر القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين. وإن دراسة تاريخ هذه المؤسسة التعليمية، تُمكِّننا من تعرُّف مسيرة تدريس الفنون في تونس عبر مرحلتين اثنتين: الأولى: مرحلة تونس المستعمَرة، والثانية مرحلة تونس المستقلة. وسنتطرق في هذا المقال الى المرحلة الأولى.
عديدة هي النصوص القانونية التي هيأت المجال للاتفاق سنة 1922على بعث مركز لتدريس الفن.
وقد فَتَحَ مركز تدريس الفن أبوابه في 15 نوفمبر سنة 1923 بإدارة بيار بويار بممر بن عياد بمدينة تونس العاصمة، بعد إجراء أول مناظرة للترسيم بالدراسة، أفضى الى قبول سبعة تلاميذ. وكان يحيى التركي، التونسي الأول الذي التحق بـمركز تدريس الفن بداية من عام 1924 وتبعه عبد العزيز الرايس وبعدهما مجموعة هامة من التلاميذ التونسيين.
والجدير بالذكر أن فتح مركز تدريس الفن بتونس كان قد سبقه فتح مدرسة الفنون الجميلة بمصر عام 1908 من طرف الفرنسيين، ولقد كانت منطلقًا لبداية مسيرة الفنون التشكيلية الحديثة في مصر ثم في بقية العالم العربي.
وفي 12 جوان 1928 ، صدر مرسوم ورد عن المدير العام، يشرِّع لشهادة في ختم الدراسات يقدّمها مركز تدريس الفن. وتم التركيز في مرحلته الأولى على تدريس الرّسم والمعمار بالإضافة إلى دروس نظرية في تاريخ الفن.
وفي عام 1930 تم الاستغناء عن تدريس المعمار، للاكتفاء فقط بتدريس الرّسم والفنون التشكيلية عمومًا، وهو ما جعل تسمية المعهد تتحول إلى مدرسة الفنون الجميلة وذلك بمقتضى النص الرّسمي الصادر في 1 اكتوبر من سنة 1930.
تَسَلَّم أرماند فارجولد المشعل عن بيار بويار عام 1930
من التونسيين الأوائل الذين زاولوا تعلمهم في هذه المدرسة: علي بن سالم وعمرغرايري وجلال بن عبد الله وعبد العزيز القرجي وليلى المنشاري (1927ـ2020) التي كانت أول فتاة تونسية درست على يد فارجو بداية من 1944 -1945 وتحصلت على منحة لتواصل دراستها في باريس.
بعد وفاة أرماند فارجولد في 5 أكتوبر عام 1949 تقلّد بيار بارجول (1897ـ1990) إدارة المعهد وكان أيضًا رسامًا يحذق الرّسم الخطي. كان برنامج بارجول واضحًا ويتمثل في الانفتاح على الفنون التطبيقية مع الإقرار بأهمية الاختصاصات التقليدية المندرجة في الفنون الجميلة.
وأحكم بيار بارجول إدارة المدرسة، مما مكّنه من مواصلة إدارتها إلى عام 1966، أي إلى ما بعد الاستقلال بعشر سنوات إلى أن أحيل على التقاعد. وأثناء هذه الفترة التحق عديد الطلبة التونسيين بهذه المدرسة ليتكونوا فيها. وأولهم صفية فرحات (1924ـ2004). وسافر عديد التلاميذ المتخرجين في مدرسة الفنون الجميلة إلى فرنسا لمواصلة تعليمهم وجلّهم عادوا إليها ليدرسوا فيها.
في 16 أكتوبر 1953 وقبل الاستقلال بثلاثة أعوام، دُشِّنَ المقر الجديد للمدرسة بباب سيدي عبد السلام بنهج الجيش الوطني من قبل المقيم العام الفرنسي بيار فوزارد وممثل عن الباي، وهو المقر الحالي لها. ولقد كان هذا الفضاء الذي استقرت فيه المدرسة مركزًا لقوات جيش المستعمر لاستقبال الجرحى أثناء الحرب العالمية الثانية. وقد عُهد للمعماري جاك مارماي (1906ـ1988) تصميم بنايته الجديدة.
مرحلة تونس المستقلة
في سنة 1966، انتقلت إدارة مدرسة الفنون الجميلة من بيار بارجول إلى صفية فرحات. لتصبح أول مديرة تونسية لهذه المؤسسة.
إن ما أنجزته صفيّة فرحات أثناء إدارتها، (1966- 1981) شكّل إلى حد اليوم التّوجّه العام لهذه المؤسّسة. ومن أبرز الإصلاحات الّتي ساهمت في إحداثها تأسيس شعبة جديدة مُسمّاة "ثقافة واتصال" (1969 – 1970) تُعنى بتكوين المُدرّسين المُوجّهين لتدريس التّربية التّشكيليّة في المعاهد الثّانويّة. وتمّ أيضًا تدعيم تكوين المصمّمين في مجالَي الصّناعة والحرف الفنّية من خلال التعاون الجاد مع ديوان الصناعات التقليدية وتدعيم تدريس المعمار أيضًا، الّذي كان يهدف إلى دفع مشروع البناء في تونس الفتية.. كما تواصل التّكوين المختصّ في الفنون التّشكيليّة، كالرّسم والنّحت والحفر وغير ذلك من الاختصاصات.
ساهمت مجموعة هامة من الفنّانين التّونسيّين في إثراء دينامية المعهد. لقد عادوا من باريس برُؤى فنّيّة معاصرة تطمح إلى إرساء فنّ تشكيليّ مُتجدّد. نذكر منهم محمود السهيلي (1931ـ2015) ورفيق الكامل (1944ـ2021) والحبيب شبيل (1937ـ2004) وعمر بن محمود (1938ـ2009)، ورضا بن عبد الله ومحمد بن مفتاح وعبد الحميد الحجام الخ...
لعلّ السّبعينيات كانت السّنوات الأكثر ثراء في مجال الإصلاحات المتعلّقة بتدريس الفنون التّشكيليّة. حيث تم إعادة هيكلة مدرسة الفنون الجميلة بحكم أمر عدد 192 في 23 أفريل 1973 تحت تسمية المعهد التكنولوجي للفن والمعمار والتّعمير الذي انفصل عن وزارة الثقافة والأخبار لينضوي تحت وزارة التعليم العالي والبحث العلمي.. أصبح المعهد منذ ذلك الحين منفتحًا حصرًا على حاملي شهادة الباكالوريا.
لقد كان أيضًا هاجس صفيّة فرحات التطلّع إلى تجارب البلدان المتقدّمة في مجال تدريس الفنّ والاستفادة منها. وأفضى ذلك، إلى فتح مجال البحث في إطار شهادة الدكتوراه تحت عنوان دكتوراه الجماليّة وعلوم الفن التي أرسيت بالتّعاون مع جامعة السوربون باريس 1. وسافرت مجموعة من الطلبة المتخرجين والمتميزين في المعهد للدراسة في هذه الجامعة الفرنسية.
شكل فتح مجال البحث اللّبنة الأولى من المتخرّجين الباحثين الّذين تعمّقوا في مجال الفنون التّشكيليّة مُمارسة وتنظيرا والحاصلين على شهادة الدكتوراه، وقد ساهموا بدورهم في مواصلة البناء من خلال تكوينهم لأجيال متلاحقة من المتخرجين الدكاترة.
إثر الإصلاح الّذي شَمل هذا المعهد سنة 1995، صدر قانون بمقتضاه تم حل المعهد التكنولوجي للفنون والهندسة المعمارية والتعمير وتقسيمه في غرة سبتمبر 1995 إلى مؤسستين اثنتين: المدرسة الوطنية للهندسة المعمارية والتعمير بتونس التي تحولت إلى الضاحية الشمالية بتونس العاصمة، ومدرسة الفنون الجميلة التي احتفظت بنفس المكان بباب سيدي عبد السلام بتونس العاصمة.
في 2005 شرعت وزارة التعليم العالي في إعادة تهيئة المعهد وتوسيع الفضاءات مع إضافة قاعات تدريس وقاعات محاضرات وجناح خاص بالبحث العلمي.
وفضلا عن مهام التكوين التي يضطلع بها المعهد، فإن مهام البحث قد تطورت بصفة ملحوظة نتيجة لتواجد عدد هام من الأساتذة صنف «أ» (خمس أساتذة) ووحدة بحث تعمل منذ 2003، مما مكن المعهد خلال (2008 – 2009) من استضافة مدرسة الدكتوراه «فنون وثقافة» التي جمعت عددًا من مؤسسات الجامعية من تونس العاصمة.
ونحن نفتتح السنة الجديدة 2023، نكون قد بلغنا الموعد المرتقب لمئوية المعهد العالي للفنون الجميلة بتونس. وهي مناسبة ستسمح مؤكدًا لتقييم مسيرته.
ماذا عن مئويته؟ (1923-2023)
بحلول هذه السنة الجديدة 2023، يكون المعهد العالي للفنون الجميلة بتونس قد بلغ مائة سنة من عمره. وإن كان يهدف أساسًا في بدايته كما سبق أن بيّنا إلى إرساء تبعية ثقافية من شأنها مساعدة المستعمِر الفرنسي في التّحكم في المستعمَرة التونسية، إلا أنه قد أصبح المصدر لتكوين أجيال الفنانين التشكيليين والمعماريين والمصمّمين التونسيين الذين ساهموا بقسط كبير في بناء تونس المستقلة.
واعتبارا لعديد الأطراف التي ساهمت في بناء المعهد عبر التاريخ، يصبح الاحتفال بمئويته ليس شأنا يخص أسرة المعهد الحالية فقط، بل كل هذه المؤسسات المساهمة في هذا البناء. فالمعهد الوطني للمعمار والتعمير الذي انفصل عن هذا المعهد الام سنة 1995، ليستقر في مدينة سيدي بوسعيد، هو جزء كبير من ذاكرته. نفس الشيء بالنسبة للمدرسة العليا لعلوم وتكنولوجيات التصميم بالدندان الذي ولد من صلبه. ومن المؤكد ان كل المعاهد العليا التي تكوّنت خلال العشريات الثلاث الأخيرة قد تغذت من هذه المؤسسة من حيث اطاراتها التدريسية والإدارية.
وفضلا عن هذه المؤسسات التعليمية ذات العلاقة المباشرة بالمعهد، فان وزارات الإشراف التي عرفها المعهد العالي للفنون الجميلة خلال النصف الثاني من القرن العشرين متعددة وجميعها معنية ايضا بهذه المئوية. فعلاوة على وزارة التعليم العالي التي تمثل منذ 1973 سلطة الاشراف للمعهد، نذكر أيضا وزارتي التربية والثقافة اللتان سبق ان تم الحاق المعهد بهما في الستينات وبداية السبعينات. أمّا جامعة تونس فقد كانت ولا تزال الجامعة التي يعود المعهد لها بالنظر. ودورها في هذه المناسبة كبير. وللتاريخ أيضا، فان الديوان القومي للصناعات التقليدية له أيضا مساهمة كبيرة. فمنذ بداية إدارة صفية فرحات كان تبادل المؤسستين متواصلا ومتكاملا. وما يمكن استنتاجه، هو أن مئوية المعهد العالي للفنون الجميلة تمثل مناسبة وطنية باستحقاق، وهي تستوجب مشاركة جميع الأطراف المعنية دون استثناء بالاحتفال بمئويته.
ما ننتظره من هذه المناسبة، هو تسليط الضوء على التاريخ المطموس لهذه المؤسسة. فالأجيال الحالية قد فقدت الخيط الرابط مع ذاكرتها ومع من صنعوها. وما نأمله، هو تجميع شهادات من عملوا فيه من اداريين ومدرسين وفنانين وعملة. فللتفاصيل شأن كبير في المساهمة في كتابة التاريخ. فضلا عن البحث في أرشيف المعهد والمؤسسات المعنية وإنجاز دراسات حول الإشكاليات الهامة التي عرفها عبر مائة سنة من عمره. اما مقره الأول الذي انطلق منه عام 1923 بممرّ بن عياد بمدينة تونس العتيقة، فهو أيضا جزء كبير من هذا التاريخ ونرجو ان يتم ترميمه من قبل بلدية مدينة تونس وتوظيفه لما يفيد القطاع.
والمئوية هي أيضا وقفة تأمل لواقع الفنون التشكيلية والمعمار والتصميم في تونس على مستوى الممارسة والتدريس والبحث العلمي.
ولا يمنع في أن نستبق هذا التقييم بتقديم التساؤلات التالية:
هل انفصال تدريس المعمار عن تدريس الفنون التشكيلية والتصميم عام 1995 كان الخيار الأفضل؟
وهل تزايد عدد المعاهد خلال العقد الأول من القرن الواحد والعشرين وبالتالي في عدد طلبتها، كان فعلا في صالح قطاع الفنون التشكيلية والتصميم؟
وهل ان النظام الجامعي الجديد أمد الذي تم العمل به بالمعهد بداية من عام 2009 مناسبًا لخصوصيات المواد الفنية المُدرَّسة فيه؟
علما وأنه في المقابل، لم تتعدّد معاهد المعمار في تونس اذ أصر المعماريون على الاكتفاء فقط بالمعهد الوطني للمعمار بسيدي بوسعيد دون فتح أي مؤسسة ثانية في الاختصاص كما رفضوا العمل بنظام أمد.
معضلة كبيرة يعيشها المعهد منذ عقود تتمثل في تجاوره جنوبا مع مستودع شاحنات النقل لبلدية تونس والتي تتسبب في ضجيج وتلوث بيئي متواصل يطال قاعات الدروس. فهل من حلّ لهذه المعضلة الكبيرة؟
عديدة هي التساؤلات التي يمكن طرحها في هذه المناسبة. وما ننتظره من هذه المئوية ليست الاحتفالات المناسبتية الزائلة، بل برنامجا متكاملا تسهر على إعداده لجنة ممثلة لعديد الأطراف المعنية السابق ذكرها، يساهم في المحافظة على هذه المؤسسة والتقدم بها نحو الأفضل: ندوة بحثية تستشرف المستقبل تفضي الى كتاب، شريط فيديو موثق، معرض كبير يستعرض تاريخ هذه المؤسسة، إصلاحات على مستوى البنية الأساسية للمؤسسة... ويبقى المجال مفتوحا لكل المؤسسات الاقتصادية الرّاعية للمشروع.
يحق لجامعة تونس وإدارة المعهد استغلال هذه المناسبة بأوجه مختلفة.
سامي بن عامر