-
menu
جريدة الشروق 24 نوفمبر 2022
بول كلي ليس ككل المستشرقين... رحلته الى تونس
إن جنح أغلب المستشرقين إلى التّركيز على الأبعاد الغرائبيّة والسّياحيّة الّتي انطبعوا بها خلال زياراتهم لبلدان المغرب، فإنّ آخرين مثل بول كلي (1879-1940) وهنري ماتيس (1869-1954) تجاوزا هذه الرّؤية، ليتقمّصا أساسًا دور المبدع، وهو ما جعلهما يفرزان تغيّرات إسطيتيقية وإنشائيّة مهمّة جدًّا أثّرت على الفنّ الحديث عمومًا.
ونركز في مقالنا اليوم على بول كلي الذي زار تونس، سنة 1914، برفقة صديقَيْه لويس مواليه (1880- 1962) وأوغوست ماك (1887-1914). واستطاع من خلال رحلته أن يتمعّن في العلامات والرّموز الّتي طبعت فنّ المعمار والنّقوش الإسلاميّة ليقحمها في فنّه، بعيدًا عن النّظرة الغرائبيّة الّتي تعوّد عليها من سبقه من الفنّانين المستشرقين الغربيّين.
ونحن حين نقرأ اليوميات الّتي تركها، نشعر أنه كان يعيش رحلته بكل ما أوتي من حواس قادرة أن تفتح له باب الإدراك لهذه المعطيات الجديدة الّتي يكتشفها. فعَكَسَ لنا الإيقاعات الصّوتيّة الّتي كان يستمع إليها وهو يزور حلق الوادي، كما عبّر عن إيقاعات الأشكال المعماريّة في الحمامات والقيروان. وفي هذه المدينة، كان لديه هذا التنوير الذي أرّخه في مذكراته: "اللون يمتلكني. لست بحاجة إلى الاستيلاء عليها بعد الآن. لقد فازت بي إلى الأبد، وأنا أعلم ذلك. اللون وأنا واحد. أنا رسام." لقد كشف عن روحانيته العميقة، ونظرته الصّوفية، وحتى تصوّفه.
استلهم من العلامات الكتابية المستوحاة من الوشم وزربيّة الجنوب التّونسي. وانتبه إلى فنّ الزّخرفة والتّوريق الهندسي والنّباتي الّذي قام على أساسه الفنّ العربي الإسلامي والموظّف خصوصًا في المعمار مثلما نشاهده في لوحة طريق قصر القرية 1937، حيث تحوّلت الخطوط المستقيمة والمنحنية في هذه اللّوحة إلى أغصان ملتوية وملولبة بتفاصيل أوراقها وزهورها المتكرّرة. أمّا في اللّوحة بعنوان فتيان غرباء جدّا، 1938 فنلاحظ فضاء تصويريًّا يستمدّ مقوّماته من النّسيج اليدويّ المتأصّل في تونس. ومثل هذه الأشياء الخفيّة، تمثل مركز اهتمام بول كلي. وهو الّذي كتب «لا يعيد الفنّ إنتاج المرئي، بل يجعله مرئيًّا».
بقدر ما يعطي بول كلي في أعماله حضورًا للعلامات والرّموز المستمدّة من المحليّة التّونسيّة، فإنّه يخلق تميّزًا فيها، يفضي إلى تعبير عن إمكاناته الإبداعية المتفرّدة.
إذا كانت زيارة بول كلي إلى تونس تمثل نقطة انطلاق جديدة وحاسمة في رحلته الفنية، فهي بالأحرى بفضل نظرته الأصيلة والحسّاسة والإنسانية تجاه العالم من حوله. لقد تفاعل مع المرئي بصفته مبدعًا مستقلًا، لتصبح أعماله الفنية بحثًا عن أسرار الطبيعة وألغازها ومصدرًا للشّعر والمغامرة والاكتشاف والتّأمل العميق والنّقد الذاتي. وهذا ما يميِّزه عن غيره من المستشرقين.
كتب جان دوفينيو (1921-2007) Jean DUVIGNAUD متحدثا عن بول كلي:
«مع ذلك، فإن الرّحلة إلى تونس، التي تكشف له حيوية ثقافية من حيث نشاطها المعتاد وواقعها اليومي وشخصياتها الرّمزية وتواصله المكثف مع العباد، لا تؤدي بالضرورة إلى شكل ثابت.. عالم جسدي حيث قد لا تولِّد البذور تسميات مستقرة».
تأثير بول كلي في عديد الفنّانين التّشكيليّين المغاربة متأكد. أولئك الّذين وظفوا هذا الزّاد الزّاخر من العلامات والرّموز الّتي تتميّز بها الفنون المحليّة كالموروث البربري خصوصًا والفنون العربيّة الإسلامية عمومًا.
سامي بن عامر